منذ بداية التدوين في التاريخ البشري ومثّلت دائما العقول الإنسانية حجر الأساس في بناء أي حضارة، كأنها المحركات الأساسية للتقدم، دائما هناك فكرة منقذة من عقل سليم، وهناك دائما قلب شجاع لتنفيذها وقلم عظيم لتسجيلها، لتكون الحضارة الإنسانية عبارة عن محطات مرتبطة بأسماء بشر فارقة في التغيير.
ولأن الإنسان كائن معقد بطبعه، فكانت حضارته معقدة بطبعها، تنتشر فيها تصرفاته البناءة حينا والهدامة حينا آخر، وتتحول الفكرة النبيلة لفعل حقير نابع من الاستغلال الإنساني لقوته وشهوته واستحقاقه اللامتناهي والتي ينتج عنها خراب ودمار.
وتبقى الفكرة الإنسانية الملهمة، واللحظة التي آمن بها عقل ما ليصدق إنها لحظة تغيير حقيقية، وبالتالي مثلت تلك الفكرة مرحلة جديدة من التطور والتقدم، ومهما كان قِدم الفكرة الإنسانية فدائما كان لإنسان قدر تنظيرها بالشكل المناسب للعصر الإنساني ومتغيراته، فمن المؤكد أن فكرة الحرية واحدة من أقدم أفكار الإنسان ولكن عند ذكرها سنذكر تنظير( جون ستيورات مل) لها وكانت كتاباته بمثابة دستور إنساني حقيقي مهما كانت المجتمعات والأجناس، ومن المؤكد أن الإنسان كان دائما مشغول بأصله وأصل الأشياء، وبدون أي كتابات سحيقة عن تساؤلات الإنسان، سنتأكد جميعا أن تلك الفكرة أتت لإنسان الكهف، كيف تتطور الأشياء؟ ولماذا تتشابه بعض الكائنات ولماذا تختلف؟ إلى أن أتى داروين ليعيد طرح الأسئلة بشكل منظم أكثر، ويطرح النظرية الأشهر لعله يجيب الأسئلة. وحين فكّر كارل ماركس في اتحاد عمال العالم ورد الظلم الواقع عليهم، ودعوته الدائمة للاشتراكية التي سميت باسمه فيما بعد، هل كان ماركس أول إنسان يقاوم أو يبشر بدعوة جديدة؟ هل كان كارل ماركس يتوقع انقسام العالم وتأسيس الدول بناء على بيانه الشيوعي؟ هل كان ذلك العقل الإنساني يتوقع أن يمتد تأثير أفكاره لمختلف العلوم الإنسانية من دين وتاريخ واقتصاد؟ لم يكن ديستويفسكي أول كاتب أو أول روائي في التاريخ، ولكنه الكاتب الذي قُدر له أن يكتب أعمق ما في النفس البشرية، أن يكتب الإنسان بصدق لدرجة اكتشافه جوانب علم النفس الإنسانية قبل أن يكون علما، سبق ديستويفسكي الكثير من الروائيين العظام ولحقه الكثيرين أيضا، ولكنه بقي وحده كواسطة عقد الرواية الإنسانية، وأن يتم وصف اكتشاف القراءة له كلحظة الحب الأول في حياة الإنسان؟ ولأن البرق لا يضرب نفس المكان مرتين نظرية مؤكدة إلا أن وجود تولستوي في روسيا يثبت عكس ذلك، فأن يتواجد عقلين بمثل هذا المستوى في زمن واحد ومجتمع واحد، وأن يكون الاثنين علامات فارقة في تاريخ الأدب ضمن لنا صورة مختلفة ومكملة لما يفكر فيه البشر، ورغم اختلاف قضايا وأسلوب كل منهما عن بعضهما، إلا أنه ضمن معرفة أوسع.